• Post published:23/06/2018

 

الروائي المصري محمود تيمور
الروائي المصري محمود تيمور

أغلى ما يملك الأنسان ذكرياته …
أنها ذخيرته التي يخلد إليها في حياته الوجدانية .. بها يطمئن باله ، وفي مجالها يمرح خياله ..فهي لنفسه أنس ، وهي لروحه متاع ..

—————————————–

*تحيط بي هذه الاثار والتذكارات فكأني استعيد رحلاتي الغابرة في عالم الماضي .
* لاعجب في أن يغدو الماضي جميلاً، فهو ذاهب لا أوبة له ولا مرد .
*أنا معترف بأني أحد أولئك الذين يخصون الماضي وذكرياته بالحظ العظيم من التقدير والاهتمام .-

—————————————

من لا ذكريات له في ماضيه ، كان في حاضره تائه الذكر ، شريد الوجدان !
هذه الذكريات مرآة الماضي ، بل زبدة ما فيه من كائنات وأحداث ..

رواية فرعون الصغير
رواية فرعون الصغير

ومن طبيعة الذكريات مرآة الماضي ، بل زبدة ما فيه من كائنات وأحداث ..
ومن طبيعة الماضي أن يجلو لك صفحته ناصعة ، ترى فيها ما هو جميل محبب ، ولو كان في حينه غير محبب ولا جميل ..
هذا الماضي يحرص دائما على أن يريك ما سلف من شأنك طيباً رائعاً وإن كنت قد لقيت من خطوبه ما لقيت ، وكابدت من شره جساماً من الأهوال
لا عجب في أن يغدو الماضي جميلاً، فهو ذاهب لا أوبة له ولا مرد ، واتصال له بالزمن السائر من بعد ، فنحن نتمثل غيبته ، ونأمن جانبه ، وذلك نستشعر له عاطفة من الإعزاز والتكريم ، ونجد له في أعماق نفوسنا نوازع الحنين !
إننا في حاضرنا نمحو ما جناه الماضي علينا ، أو إننا نغفر لهذا الماضي سيئاته التي أسلفنا الينا ، فللزمن ناصر تصهر الأحقاد، فتصفو النفوس ولا تلبث ان تجنح إلى صفح وغفران ..
بيد أن المرء لا يمنح الماضي هذه الهبة الكريمة من المسالمة ، إلا إن استيقن أن ذلك الماضي لا سبيل له إلى الرجوع .. فلو توقع إيابه لما تعلق به ، ولما صبت نفسه إليه ، ولما غفر ما قدمت يداه من آثام .
إذ عاد الماضي عادت معه سيئاته ، تنفض عنها أكفانها ، وتعلو بهاماتها ، وتكشف عن انيابها المسنونة ..وهيهات أن يقع ذلك منا موقع الرضا والترحاب !
و لكننا نؤمن بأن ذلك الماضي عهد مضى وانقضي ،و أمس ادبر وتولى ، فلا ضير علينا أن نذكره بالخير ، وان نوليه جانباً من الإشفاق …ولعلنا نحس ميلاً دفيناً إلى أن نعزو المحامد إليه .ونلتمس المعاذير له ، ونتفنن في تسويغ ما ساءنا من تصاريفه ، وتهوين ما نابنا من جرائره مادام الماضي قد انقطع عنا ، فهو حقيق بأن نسبل على ذنبه أستار المغفرة …مادام الماضي غير عائد إلينا ، فهو خليق منا بأن نطوي له نفوسنا على تعلق وحنين !

 

مصر الخمسينيات
مصر الخمسينيات

وإن التذكارات المادية هي اقوى أركان الماضي وأقوم دعائمه ، فهي تثير الذكريات من مراقدها ، و هي تجسمها وتبعث الحياة فيها على نحو شائق مستعذب .
ولقد عرف الناس لهذه التذكارات اثرها البالغ، فكل امريْ يقبل عليها قلت أو كثرت ، ويعتز بها ، غلت أو رخصت ، ويستكثر منها ما وسعه أن يستكثر .
وليست تقوم هذه التذكارات بما تقوم به الأشياء في سوق الحياة ، فان تقويمها إنما يكون بما تثير من ذكرى وما توحي به من حال ، فقد يكون التذكار صورة على أي نحو ، و قد يكون طرفة في أي مظهر ، و قد يكون قصاصة من ورق أو بقية من قلم ، أو ما دون ذلك من عامة الأدوات والأشياء .

رواية نداء المجهول
رواية نداء المجهول

ورب تذكار هو أهم ما يملك المرء من طرف وتحف ، كان هو الفائز بالنصيب الأوفر من الاعزاز ، بل لقد يبلغ عند صاحبه مبلغ التقديس بدلا منه ، لما نزل عنه ، ورضى به بديلاً .
وأنا معترف بأني أحد أولئك الذين يخصون الماضي وذكرياته بالحظ العظيم من التقدير والاهتمام ، واني لا آلو جهداً في الاحتفاظ لنفسي بما يبعث على الماضي ويثير ما فيه من ذكريات .
في صومعتي التي اخلو فيها إلى كتبي و أقلامي ، وأوراقي ، شكول من الأثار و التذكارات ، لكل منها في قلبي مكانته والكثير منها جمعت شتاته من مختلف الأصقاع التي كنت أجوس بها لمحض الزيارة أو للاستشفاء .
تلك الآثار والتذكارات تمثل ادوار متعددة من حياتي الخاصة ، وإني لتقع نظراتي عليها من حجرة مكتبي الضيقة ، فيخيل إلي انها تختزل العهود ، وتختصر الأزمان ، وتداني بين الأصقاع ، وانها تريني ذلك كله مضغوطاً مدمجاً يبعث الماضي امام عيني حياً في اية ساعة أريد .
ما أقربها شبهاً بتلك البلورة التي تستطيع أن تلم ما تشعث من شعاع الشمس فتركزه في مكان محدود هو ملتقي النور .
تحيط بي هذه الاثار والتذكارات فكأني استعيد رحلاتي الغابرة في عالم الماضي ، قريبه وبعيده ، وأجدني اسيح فيه على نحو جديد ، لأني أتصوره بعين اليوم الراهن ، وأنتقل إليه على أجنحة من يال الحاضر .
وإن هذه الرحلات التي اقوم بها ، وانا ساكن في صومعتي لهي اطيب رحلاتي ، وأوفرها دعة وطمأنينة ، فقد برئت من التكاليف ،وسلمت من المشاق !
لاحقائب متاع تعباً، ولا جوازات سفر تهيأ ، ولا جمارك أخوض غمراتها على كره ، ولا مركبات أتنقل بها غير آمن .
وأشعر دائماً بأني أجدد بهذه الرحلات حياتي الراتبة ، وأذهب بها ما يعتريني من سأم ، وأبث بين جوانحي روحا من الحركة و الطواف .
بارك الله في تلك الآثار والتذكارات ، سجينة ..ولكنها تثير الانطلاق.. مقيمة ، ولكنها أبداً على سفر .

كتبها الأديب المصري الروائي
الاستاذ محمود تيموربك
(1894 – 1973م)

نقلا عن :
” مجلة الاثنين والدنيا / العدد 738 -17 من ابريل 1950 م “

من انتقاءات  د.محمد الشيباني

نشرت في تراثنا العدد43 فبراير 2011

اترك تعليقاً