نساء في تاريخنا

تراثنا – د . محمد بن إبراهيم الشيباني * :

كثيرات من النساء اللآئي ذكرن في التاريخ القديم أو الحديث ، وذِكر الأنسان لا يكون إلا بعمله ، أو أعماله بشكل عام ، فهي التي تخلده في حياته ، كما في مماته .
وكم أمرأة خلدهما عملها الذي تركته ، يتناقله الناس والكتب ، التي دونت سيرهم ، وحتى لا ينحرف القلم فيطيل في التقديم ، أقف عند ذكر أمرأة خلدتها أعمالها في حياتها وبعد مماتها ، ألا وهي زوجة الرشيد هارون الخليفة العظيم ، الذي لم تر بغداد مثله في الصيت الحسن ،والذكر الطيب .
فكان وزوجه يتنافسان في أعمال الخير ، وبناء المجتمع بصوره كافة ، وهو التعليم والثقافة والطبابة ، وكل الفنون ، وكان عصره ، عصر الفتوح والعلوم ،وعزة الإسلام ، وشهرة بغداد في العالمين لا تضاهيها شهرة .
زبيدة بنت جعفر أم جعفر الهاشمية العربية ، وجه من وجوه بغداد المشرقة ، كما قال أهل التاريخ ، فقد قامت بأعمال عجز عنها الملوك العظام ، ذات عقل ودين ، ورأي سديد .

أنشأت المساجد في بغداد وخارجها ، واحتفرت عيناً تجريها للحجيج من مالها الخاص ،حيث جلبت الماء من مسافة اثنى عشر ميلاً ، مع صعوبة ذلك ، حيث الجبال والأراضي الصخرية القاسية ، ولكنها مهدت الطريق حتى أخرجت منه الماء ، وسميت بعد ذلك بدرب (زبيدة) .
أمرت أن تبني المنازل والمصانع والبرك والآبار من الكوفة إلى مكة ، يقول الرحالة ابن جبير : فهذه الطريق طريق مرافق ومنافع تعم وفد الله تعالى .
قالت لوكيلها قولتها الخالدة : عزمت عليك أن تفعل ، ولو كلفتك ضربة الكأس ديناراً ! وقد كتب د . سعد الراشد أستاذ التاريخ والآثار (باللغة الأنكليزية) عن هذا الدرب بعد تحقيقه له ، مع بعثة جامعة الرياض إلى المكان نفسه ،أصدرته الجامعة عام 1980 م .
وقد وجد الراشد كثيراً من شواهد القبور مكتبة بالخط الكوفي ، مع كثير من الكتابات المتنوعة في الجبال والطريق وعلى الصخور والمباني التي بنيت آنذاك في الدرب ،ووجد كذلك علامات للمسافات بين المناطق ، كتبت على الحجارة تعود إلى ذلك الزمن .
وأرفق د .الراشد مع كتابه هذا خرائط وصوراً ومعلومات مهمة عن هذا الدرب ،وعلى من سلكه من بعد تدل دلالة واضحة على غنى الآثار في المملكة العربية السعودية ، واكثرها مازال بكرا لم تكتشف.
درب زبيدة أصح من الآثار اليوم ، ولكن مازالت الناس تتحدث عنه !

تحدث المؤرخون عن أم جعفر حكايات كثيرة تدل على أفعالها الكريمة وسخائها الذي كان لا تحده حدود ، فهي وزوجها الرشيد ، كما قالوا :
” من زينات بغداد ولكل واحد منهما وجه مشرق من أوجه بغداد الطلقة “.
كانت نزعتها العربية العنيفة (كما قال جمال الدين الألوسي) تقاوم نفوذ الفرس ، وكانت من عوامل القضاء على البرامكة ، لما كانت تحس من نفوذهم وأفتتان الناس بهم .
*رئيس مركز المخطوطات والتراث والوثائق ومجلة تراثنا
تواصل مع تراثنا