الحلقة الثالثة
فن التجليد والتذهيب

تراثنا – عرفه عبده علي* :
في الحلقة الثالثة ، نستأنف دراسة ازدهار فنون تذهيب المصاحب والكتب والمخطوطات وتجليده في الحضارة الإسلامية ، مع ذكر جانب من أبرز الشخصيات التي تصدرت هذا الفن العريق .

استخدم التذهيب بداية في زخرفة المصاحف ، وسرعان ما انتقل إلى سائر المخطوطات ، خاصة تلك التي كانت تُهدى إلى الأمراء وكبار رجال الدولة ، ويذكر ابن النديم ، صاحب الفهرس أن “خالد بن أبي الهياج “، كان أول من اشتهر بكتابة القرآن الكريم بخط جميل ، وهو الذي كتب بالحروف المذهبة جزءاً من سورة “الشمس ” على الجدار الجنوبي للمسجد النبوي بالمدينة المنورة !

ويشير ” القلقشندي” ، إلى أن محلول مداد الذهب ، أو ماء الذهب ، يتكون من برادة الذهب والماء والصمغ وعصير الليمون !
ويبدو المسلمين قد تحرجوا من كتابة المصحف بمداد الذهب لما في ذلك من الإسراف الذي لا يليق، فاقتصروا على استخدام مداد الذهب في رسم فواصل الآيات، وفواصل السور ،وفي رسم زخارف الهوامش الجانبية في بعض الصفحات، وكذا تجميل الصفحات الأولى والصفحات الأخيرة من المصاحف .
وبتعاقب السنين ضعف ذلك الحرج ، وأقدم بعض النسّاخ على استخدام هذا المداد بحرية أكبر في الكتابة والزخرفة على حد سواء ، وقد وصلتنا أمثلة قليلة ،ولكنها رائعة من مصاحف مكتوبة ومزخرفة بمداد الذهب ،وأهمها مصحف محفوظ بدار الكتب المصرية بالقاهرة ، ونسخ برسم السلطان الناصر محمد بن قلاوون .
وكانت مكانة “المُذَهِب” تلي مكانة الخطاط ، وقد أبدع الفنان المسلم في هذا الفن ، واستخدم أرق التشكيلات والموتيفات النباتية والهندسية ، في تزيين المصحف ، خاصة صفحتيه الأوليين وخاتمته .
كما أُستخدم بعض الزخارف المميزة مثل الزهور والنجميات في أسماء السور ، وفواصل الآيات ومواضع انتهاء الأجزاء والأحزاب والأرباع ، وفي مواضع السجدات ، ويُلاحظ أن المصاحب المخطوطة كانت زخارفها خالية من الرسوم الآدمية والحيوانية .

وكان لتفضيل اللونين الذهبي والأزرق في كتابة المصاحف وزخرفتها تأثير كبير على فن الكتابة عامة ، سواء عند المسلمين أو عند غيرهم ، ومن هنا كانت الصفحات الأولى والأخيرة من المصاحف موضع الاهتمام من قبل مؤرخي الفن الإسلامي الذين أخذوا يعنون بدراسة النواحي الجمالية في المصاحف
.

ثم انتقل التذهيب بعد ذلك ليمارس بحرية أكبر في الكتب ، وخاصة النصوص الأدبية المصورة .. وكان التأثير متبادلاً بين فناني التذهيب في مصر والأندلس وإيران وتركية وبلاد المغرب .
وقد برع في هذا الفن أعلام مثل : اليقطيني ،وإبراهيم الصغير ، وأبى موسى بن عباد ، ومحمود محمد وأشار ، ابن النديم ، إلى أن هؤلاء كانوا يذهّبون المصاحف ويذهّبون الجلود بطريقة الشرائح ، وكان الخطاط يترك صفحات كاملة لترسم فيها الزخارف النباتية والهندسية والحيوانية ، وتُلون بالألوان البراقة خاصة الذهبي والفضي ، بالإضافة إلى بدايات الفصول والهوامش والصفحات الأولى والأخيرة ، وقد برع الإيرانيون والمماليك والأتراك في فن التذهيب ، وكان الفنان الذي يبرع بالتذهيب حريص على إضافة لقب ” المُذهب” إلى اسمه !
وتجدر الإشارة إلى أهم وأشهر المخطوطات المصورة ، المنمنمات بدار الكتب المصرية ، مخطوط ، بوستان سعدي ، نظم الشاعر الإيراني شرف الدين ابن مصلح الدين السعدي الشيرازي (1184 – 1291م) واحتوى عشراً من أبواب الشعر ، وبعض نوادر الملوك وسير أبطال الحروب وحكايات ومواعظ اجتماعية فرغ من نظمه ” كمال الدين بهزاد”، في كل العصور .. وعلى سبيل المثال أيضاً نسخة من مخطوط مقامات الحريري ، بالمكتبة الأهلية بباريس ، ابدع رسوماتها وألوانها يحيى بن محمود الواسطي ، أشهر فناني مدرسة بغداد .
طالع الحلقة الثانية :
فن تذهيب وتجليد المصاحف والمخطوطات والكتب النادرة
يتبع لاحقا ..
نقلا عن مجلة تراثنا – العدد 93
تواصل مع تراثنا