ولنا في التاريخ عبرة

تراثنا – د . محمد بن إبراهيم الشيباني * :
ضياع الأندلس من قبل خلفائها بركونهم لمتع الدنيا بأنواعها الشاملة الخمرة والنساء وجمع المال من غير مصادره المشروعة .

وقد ظلموا بأخذ حقوق غيرهم ، حيث اختلطت عليهم السبل ، وهوى النفس ، فمن مملكة قامت على الدين ونشره ونصرته ، إلى مملكة هدفها الدنيا والتقاتل على الكرسي ، حتى لو كان ذلك على حساب الدين والولاء والبراء من أعدائه ، حيث ألتجأ كثير منهم إلى دولة الفونس وأهل الصليب ، واستعانوا بهم على إخوانهم حتى مات في صدورهم الدين ، وحل محلة الخور والمهانة والذلة وإيلاف الشقاق والميل إلى إثارة الحروب بينهم .

وهي عقوبات استحقوها من الرب الذي سيّدهم ومكّنهم في تلك البقعة النائية من العالم ، لينشئوا فيها مملكتهم الفتية ، وكان إخلاصهم في أوله مشهوداً لهم فيه ، لهذا مكنهم ربهم ، ولكن (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ) .
مدخل أردت أن ألج من خلاله إلى موضوعي كما ذكرت ، وهو أن لا أحد من المسلمين ، بل من الغربيين ، بشكل عام ، والاسبان بشكل خاص ، لم يحزن على سقوط الأندلس ، لأنهم يعلمون تمام العلم أن العرب المسلمين أنشأوا في هذه الناحية ليس مملكة إسلامية مستبدة منغلقة على نفسها وشعبها ، وإنما جامعة كبيرة ، كانت تغذي أوروية كلها بالعلوم والفنون والفلاحة والمعارف والصنائع الإنسانية المختلفة .
فقد بلغ المسلمون شأو العظمة في اتساع علومهم ، وذاقت أوروبة كلها هذه العلوم ، وتنافست شعوبها في دراستها ، وأرسلت بعثاتها المتنوعة إليها ، إما بهدف الدراسة ، أو الاستزادة أو المراجعة لتوثيق علومهم عن طريق العلماء ، أو الأخذ من العلوم المسطورة في الكتب الكثيرة ، التي كانت مكتباتها الضخمة منتشرة في كل مكان من مدن الأندلس .
يقول بعض علماء الغرب عن العمار وتشييد المباني إن العرب : ” كانوا يكتبون على جميع المباني الجليلة أسمي المهندس والآمر بالتشييد ،ويجزلون الثناء على كل ما هو ماهر في الفن ، وقد بلغوا الدرجة العلية في فنون العمارة .. ولذا اقتفى الفرنج أثرهم في أساليب أبنيتهم وزخارفها “.
لقد صنعوا الانحدارات الهندسية للمساقي ، والقناطر والجداول ومجاري المياه الموزعة على المباني والقصور والمساجد والأماكن العامة والبساتين والمزارع ، حتى اعجزت طرائقهم الهندسية الغرب وعلماءه .

الأندلس حلم يراود الجميع إحياؤه منذ سقوطها ، ومازالت آثار ناسها التي بنوا باقية يراها العالم ، فهي حقيقة لا خيال ، جمال لا قبح ، وكان عمل دؤوب إلى الرفعة والعلوم.
هكذا كانت مع شقاق المتأخرين من خلفائها فيما بينهم حتى دمارهم، لكنها ما زالت عروساً يتغنى الجميع بجمالها ويحزن على نهايتها .
أردت التذكير بهذا الجزء الذي انتهى بفعل الشهوات والغواية والخيانة ، وحب الدنيا ، فهو الداء الذي يصيب ،ومازال أغلب الممالك وأهلها ، إذا هي سارت وفقها وعلى منوالها ، فالنتيجة واحدة ، لا ثانية لها .
والله المستعان ..
*رئيس مركز المخطوطات والتراث والوثائق ومجلة تراثنا
نقلا عن تراثنا – العدد 94
