أدب الرحلات
“رحلة صيف” لخليل بن عبده مطران

تراثنا – د . محمد بن إبراهيم الشيباني * :
استل هذا البحث من “مجلة الزهور” اللبنانية (4 / 401، مج 1) ، سنة 1913م ،تقع في أربعة مجلدات للسنوات :” 1910م – 1913م” .

لقد أُهديت هذه المجلة لمركز المخطوطات والتراث والوثائق بالكويت الذي أترأسه مع مجلة أخرى من دار “صادر” عن طريق صاحبها من “دار الجميل” عندما زارنا في المركز خلال حقبة التسعينيات ، وهناك مجلات أخرى أُشتريت من الدار نفسها في المعارض الأخرى التي كانت تقام في بلدان الخليج وغيرها .

لقد استفدت من موضوعات هذه المجلة كثيراً ، وذلك لغنى ما نُشر بها من مقالات وبحوث واشعار لكتّاب تلك الأيام الطيبة من المشهورين وغير المشهورين .
ثروة غنية كبيرة في أحشاء هذه المجلات تحتاج إلى أوقات كثيرة لاخراج دررها وكنوزها ، ومنها هذه المقالة لشاعر القطرين اللبناني الأديب “خليل بن عبده مطران ” ، يرحمه الله – التي كتبها في نوفمبر 1907 م ،ننشرها على حلقات في موقع تراثنا، والأصل منشور كاملاً في المجلة بنسختها الورقية.
بداية رحلة “صيف”

ذهبت إلى الأسكندرية ،وفي تقديري أن أقضى ثمّت يومين ، وفي تقدير الله ، أن أقضي شهرين ،فما هو إلا أن خلت ليلة حتى باغتني داء ، فضرب وأثقل ، ثم تمكن فأعضل ، ثم أناخ بكلكل ، فلما صحوت بعد أيام من سكرته ، ونجوت من مضطرب غمرته ، نهضت ببقية الجسم الباقية ، كما تلبس الخرقة البالية ، وعرضت نفسي على الباخرة ، فالباخرة تحملني ، إما إلى الشرق ، وإما إلى الغرب ، فقيل : مكانك يا هذا الخيال ! الباخرة لا تستقل بك في زمن وباء ، وقد تستقل بأشباه الجبال .
قال الطبيب : فعليك بالمكس ، حسن هواؤها ، وجل رواؤها .
جو بديع
فقصدت المكس ، وما أدراك ما هي الآن ،هي أحدى ضواحي الاسكندرية قليلة المساكن حقيرتها ، تمتد سلسلة أبنيتها مستطيلة ، بين شاطىء البحر والرمل ، الهواء فيها جاف نقي عاصف ، والبحر شديد الخفوق ، لا يمل من مداعبة الصخور بمثل خشونة الضواري في تداعبها ، والمنطر على الجملة بديع في مطلع الشمس وفي مغربها .
وللشمس فيها تجليات باهرة خلال الغمام ، وللغمام تشكل وتلون فاتنان ، وللأفق تأنق عجيب في ترتيب قدر المنطقة التي يتحزم بها وإبرازها في أبدع زينة ، بين الوردي فالبنفسجي فالفستقي فالزمردي فاللازوردي فالسنجابي ، فما بينها من الألوان التي تلطف اجتماعاتها وتزيدها بهاء على التنويع .
الأهمال زادها جمالاً

ومن محاسن المكس أن الحكومة مهملتها ، فهي من أجل هذا لم تزل قطعة من الطبيعة ، يعيش فيها الإنسان ، كما يحب أن يعيش المتمتع طالب الراحة ،فإذا مر في طريق ، فالطريق غير ممهدة ولا مستقيمة ، ولا محفوفة بصفين من الشجر يحجبان النظر ، كما تحجب عيون الخيل التي تجر المركبات ، بل هي ضيقة فواسعة ، صاعدة فمنحدرة ، رملية فحجرية ممتدة ، فمنعطفة فيها للسائر ما لا يألفه ، فيستجده كل آن ، وفيما حولها من المسافات المفتوحة ما ينطلق معه النظر على مدى البحر الفسيح تارة ، وعلى مدى الرملة الوعساء طوراً .
الملاحات

رأيت في خلال إقامتي بالمكس بعض الأشياء التي تجدر بالذكر ، رأيت الملاحات ، وعلمت للمرة الأولى علم الشهادة ، والتحقيق كيف يُصنع هذا ” المصلح ” الذي يُصلخ غذاءنا(2) ، ويِنزل من حاجيات حياتنا في المنزلة الأولى ، حتى أن الأمصار التي لا يوجد فيها تستورده من بعيد على ظهور الدواب ، تتداول قطعة تدوال النقود .
البلادة مستحكمة !
وإني لأستحي أن أصف بالدقة كيف يُصنع “الملح” ، لأن أجهل الناس يتصوره ، ولكني أخاف القول أن البلادة مستحكمة في قلوبنا ،نحن الشرقيين ، متمكنة من لحمنا ودمنا ، إلى حد أننا لا نتكلف الرؤية ولو عن كثب ، لنعلم من دقائق الأمر ، مالم يُلم به تصورنا إلماماً تاماً من مجرد الأخبار .
رأيت أيضاً مصنع الحجارة الضخمة المربعة التي تُعد لإتمام جدار الرصيف الشرقي بالاسكندرية ، وقد تم منها ألوف يجدها الناظر معروضة على خط مستطيل ، وهي تحمل على ظهور البواخر بوساطة مرفعة بخارية منصوبة على رأس صخرة متقدمة في البحر .
قرية العجمي

رأيت حيث ينتهي النظر من المكس ، شبة قرية ذات خضرة تدعى “العجمي” ، عاقني عن تفقدها ضعف الجسم ، فسألت أحد ساكنيها ، فقال : إنها لا مزية لها عن سائر القرى المجاورة إلا بشىء ، وهو أن البحر يمد هناك ذراعاً ، ثم يعطفه عطفة الضم والتطويق ، فينزع قطعة من الأرض من أمها ، ويُحدث منها جزيرة ،و في الجزيرة مقام لولي يُعرف بالعجمي ، وهذا المقام غاص بالمراكب الصغيرة المهداة إليه نذوراً ، والنواتي يعتقدون أنه شفيعهم ، وأنه ببركة هذه النذور يرق لهم ، وينقذهم من أخطار البحر ! (1)
يتبع لاحقا ..
هوامش :
1– يقصد الملح .
2- ما أتعس الإنسان ، رب العباد يخلق وغيره يُعبد ، والله يرزق ،وغيره يُشكر ، خيره نازل إليهم ،وشرهم إلى الله صاعد ، تعس والله من يستجير بغير الله ويطلب منه دفع الشر وجلب الرزق ، شرك في العبادة والدعاء والوسيلة .
نقلا عن تراثنا – العدد 94
لاقتناء نسختك
تواصل مع تراثنا