• Post published:الأثنين 13 ذو الحجة 1446هـ 9-6-2025م

 

 

أدب الرحلات 

“رحلة صيف” لخليل بن عبده مطران

 

منطقة المكس بالاسكندرية كما بدت قديما
منطقة المكس بالاسكندرية كما بدت قديما

 

تراثنا – د . محمد بن إبراهيم الشيباني * :

 

استل هذا البحث من “مجلة الزهور” اللبنانية (4 / 401، مج 1) ، سنة 1913م ،تقع في أربعة مجلدات للسنوات :” 1910م – 1913م” .

 

 

د . محمد بن إبراهيم الشيباني
د . محمد الشيباني

 

لقد أُهديت هذه المجلة لمركز المخطوطات والتراث والوثائق بالكويت الذي أترأسه مع مجلة أخرى من دار “صادر” عن طريق صاحبها من “دار الجميل” عندما زارنا في المركز  خلال حقبة التسعينيات ، وهناك مجلات أخرى أُشتريت من الدار نفسها في المعارض الأخرى التي كانت تقام في بلدان الخليج وغيرها .

 

دار صادر للنشر
دار صادر للنشر

 

 لقد استفدت من موضوعات هذه المجلة كثيراً ، وذلك لغنى ما نُشر بها من مقالات وبحوث واشعار لكتّاب تلك الأيام الطيبة من المشهورين وغير المشهورين .

 

 ثروة غنية كبيرة في أحشاء هذه المجلات تحتاج إلى أوقات كثيرة لاخراج دررها وكنوزها ، ومنها هذه المقالة لشاعر القطرين  اللبناني الأديب “خليل بن عبده مطران ” ، يرحمه الله – التي كتبها في نوفمبر 1907 م ،ننشرها على حلقات في موقع تراثنا، والأصل منشور كاملاً في المجلة بنسختها الورقية.

 

بداية رحلة “صيف”

 

خليل مطران
خليل مطران

ذهبت إلى الأسكندرية ،وفي تقديري أن أقضى ثمّت يومين ، وفي تقدير الله ، أن أقضي شهرين ،فما هو إلا أن خلت ليلة حتى باغتني داء ، فضرب وأثقل ، ثم تمكن فأعضل ، ثم أناخ بكلكل ، فلما صحوت بعد أيام من سكرته ، ونجوت من مضطرب غمرته ، نهضت ببقية الجسم الباقية ، كما تلبس الخرقة البالية ، وعرضت نفسي على الباخرة ، فالباخرة تحملني ، إما إلى الشرق ، وإما إلى الغرب ، فقيل : مكانك يا هذا الخيال ! الباخرة لا تستقل بك في زمن وباء ، وقد تستقل بأشباه الجبال .

 

قال الطبيب : فعليك بالمكس ، حسن هواؤها ، وجل رواؤها .

جو بديع 

 

فقصدت المكس ، وما أدراك ما هي الآن ،هي أحدى ضواحي الاسكندرية قليلة المساكن حقيرتها ، تمتد سلسلة أبنيتها مستطيلة ، بين شاطىء البحر والرمل ، الهواء فيها جاف نقي عاصف ، والبحر شديد الخفوق ، لا يمل من مداعبة الصخور بمثل خشونة الضواري في تداعبها ، والمنطر على الجملة بديع في مطلع الشمس وفي مغربها .

 

وللشمس فيها تجليات باهرة خلال الغمام ، وللغمام تشكل وتلون فاتنان ، وللأفق تأنق عجيب في ترتيب قدر المنطقة التي يتحزم بها وإبرازها في أبدع زينة ، بين الوردي فالبنفسجي فالفستقي فالزمردي فاللازوردي فالسنجابي ، فما بينها من الألوان التي تلطف اجتماعاتها وتزيدها بهاء على التنويع .

 

الأهمال زادها جمالاً 

 

القوارب المهملة في منطقة مكس بالاسكندرية
القوارب المهملة في منطقة مكس بالاسكندرية

 

ومن محاسن المكس أن الحكومة مهملتها ، فهي من أجل هذا لم تزل قطعة من الطبيعة ، يعيش فيها الإنسان ، كما يحب أن يعيش المتمتع طالب الراحة ،فإذا مر في طريق ، فالطريق غير ممهدة ولا مستقيمة ، ولا محفوفة بصفين من الشجر يحجبان النظر ، كما تحجب عيون الخيل التي تجر المركبات ، بل هي ضيقة فواسعة ، صاعدة فمنحدرة ، رملية فحجرية ممتدة ، فمنعطفة فيها للسائر ما لا يألفه ، فيستجده كل آن ، وفيما حولها من المسافات المفتوحة ما ينطلق معه النظر على مدى البحر الفسيح تارة ، وعلى مدى الرملة الوعساء طوراً .

الملاحات 

 

الملاحات في المكس بمصر
الملاحات في المكس بمصر

رأيت في خلال إقامتي بالمكس بعض الأشياء التي تجدر بالذكر ، رأيت الملاحات ،  وعلمت للمرة الأولى علم الشهادة ، والتحقيق كيف يُصنع هذا ” المصلح ” الذي يُصلخ غذاءنا(2) ، ويِنزل من حاجيات حياتنا في المنزلة الأولى ، حتى أن الأمصار التي لا يوجد فيها تستورده من بعيد على ظهور الدواب ، تتداول قطعة تدوال النقود .

 

البلادة مستحكمة !

 

 وإني لأستحي أن أصف بالدقة كيف يُصنع “الملح” ، لأن أجهل الناس يتصوره ، ولكني أخاف القول أن البلادة مستحكمة في قلوبنا ،نحن الشرقيين ، متمكنة من لحمنا ودمنا ، إلى حد أننا لا نتكلف الرؤية ولو عن كثب ، لنعلم من دقائق الأمر ، مالم يُلم به تصورنا إلماماً تاماً من مجرد الأخبار .

 

رأيت أيضاً مصنع الحجارة الضخمة المربعة التي تُعد لإتمام جدار الرصيف الشرقي بالاسكندرية ، وقد تم منها ألوف يجدها الناظر معروضة على خط مستطيل ، وهي تحمل على ظهور البواخر بوساطة مرفعة بخارية منصوبة على رأس صخرة متقدمة في البحر .

 

قرية العجمي 

 

بلاحات حي العجمي بالاسكندرية
بلاحات حي العجمي بالاسكندرية

 

رأيت حيث ينتهي النظر من المكس ، شبة قرية ذات خضرة تدعى “العجمي” ، عاقني عن تفقدها ضعف الجسم ، فسألت أحد ساكنيها ، فقال : إنها لا مزية لها عن سائر القرى المجاورة إلا بشىء ، وهو أن البحر يمد هناك ذراعاً ، ثم يعطفه عطفة الضم والتطويق ، فينزع قطعة من الأرض من أمها ، ويُحدث منها جزيرة ،و في الجزيرة مقام لولي يُعرف بالعجمي ، وهذا المقام غاص بالمراكب الصغيرة المهداة إليه نذوراً ، والنواتي يعتقدون أنه شفيعهم ، وأنه ببركة هذه النذور يرق لهم ، وينقذهم من أخطار البحر ! (1)

 

 

يتبع لاحقا ..

 

 

هوامش :

1– يقصد الملح .

2- ما أتعس الإنسان ، رب العباد يخلق وغيره يُعبد ، والله يرزق ،وغيره يُشكر ، خيره نازل إليهم ،وشرهم إلى الله صاعد ، تعس والله من يستجير بغير الله ويطلب منه دفع الشر وجلب الرزق ، شرك في العبادة والدعاء والوسيلة . 

 

 

 

نقلا عن تراثنا – العدد 94 

 

غلاف مجلة تراثنا في عددها رقم 94 الصادر في ( ذو الحجة 1446هجري - يونيو 2025م) .

 لاقتناء نسختك 

هواتف مركز المخطوطات والتراث والوثائق - الكويت

 

 

تواصل مع تراثنا 

 

 

اترك تعليقاً